الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
مكية بإجماع. وقال مقاتل: إلا قوله {حم، والكتاب المبين، إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} قوله تعالى}حم، والكتاب المبين}تقدم. وقيل}حم}قسم. }والكتاب المبين}قسم ثان؛ ولله أن يقسم بما شاء. والجواب }إنا جعلناه}. وقال ابن الأنباري: من جعل جواب }والكتاب}}حم}- كما تقول نزل والله وجب والله - وقف على }الكتاب المبين}. ومن جعل جواب القسم }إنا جعلناه}لم يقف على }الكتاب المبين}. ومعنى}جعلناه}أي سميناه ووصفناه؛ ولذلك تعدى إلى مفعولين؛ كقوله تعالى والكناية في قوله}جعلناه}ترجع إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة؛ كقوله تعالى وقال ابن زيد: المعنى لعلكم تتفكرون؛ فعلى هذا يكون خطابا عاما للعرب والعجم. ونعت الكتاب بالمبين لأن الله بين فيه أحكامه وفرائضه؛ على ما تقدم في غير موضع. {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} قوله تعالى}وإنه في أم الكتاب}يعني القرآن في اللوح المحفوظ }لدينا}عندنا {لعلي حكيم}أي رفيع محكم لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض؛ قال الله تعالى {أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين} قوله تعالى}أفنضرب عنكم الذكر صفحا}يعني: القرآن؛ عن الضحاك وغيره. وقيل: المراد بالذكر العذاب؛ أي أفنضرب عنكم العذاب ولا نعاقبكم على إسرافكم وكفركم؛ قال مجاهد وأبو صالح والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال ابن عباس: المعنى أفحسبتم أن نصفح عنكم العذاب ولما تفعلوا ما أمرتم به. وعنه أيضا أن المعنى أتكذبون بالقرآن ولا تعاقبون. وقال السدي أيضا: المعنى أفنترككم سدى فلا نأمركم ولا ننهاكم. وقال قتادة: المعنى أفنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم. وعنه أيضا: أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به فلا ننزله عليكم. وقال ابن زيد. قال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين رددته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله ردده وكرره عليهم برحمته. وقال الكسائي: أفنطوي عنكم الذكر طيا فلا توعظون ولا تؤمرون. وقيل: الذكر التذكر؛ فكأنه قال: أنترك تذكيركم لأن كنتم قوما مسرفين؛ في قراءة من فتح. ومن كسر جعلها للشرط وما قبلها جوابا لها؛ لأنها لم تعمل في اللفظ. ونظيره وانتصب }صفحا}على المصدر لأن معنى أفنضرب}أفنصفح. وقيل: التقدير أفنضرب عنكم الذكر صافحين، كما يقال: جاء فلان مشيا. ومعنى}مسرفين}مشركين. واختار أبو عبيدة الفتح في }أن}وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر، قال: لأن الله تعالى عاتبهم على ما كان منهم، وعلمه قبل ذلك من فعلهم. {وكم أرسلنا من نبي في الأولين، وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون، فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين} قوله تعالى}وكم أرسلنا من نبي في الأولين}}كم}هنا خبرية والمراد بها التكثير؛ والمعنى ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء. كما قال {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} قوله تعالى}ولئن سألتهم}يعني المشركين. }من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم}فأقروا له بالخلق والإيجاد، ثم عبدوا معه غيره جهلا منهم. {الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون} قوله تعالى}الذي جعل لكم الأرض مهادا}وصف نفسه سبحانه بكمال القدرة. وهذا ابتداء إخبار منه عن نفسه، ولو كان هذا إخبارا عن قول الكفار لقال الذي جعل لنا الأرض }مهادا}فراشا وبساطا. وقد تقدم. وقرأ الكوفيون }مهدا}}وجعل لكم فيها سبلا}أي معايش. وقيل طرقا، لتسلكوا منها إلى حيث أردتم. قوله تعالى}لعلكم تهتدون}فتستدلون بمقدوراته على قدرته. وقيل}لعلكم تهتدون}في أسفاركم؛ قال ابن عيسى. وقيل: لعلكم تعرفون نعمة الله عليكم؛ قاله سعيد بن جبير. وقيل: تهتدون إلى معايشكم. {والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون} قوله تعالى}والذي نزل من السماء ماء بقدر}قال ابن عباس: أي لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم، بل هو بقدر لا طوفان مغرق ولا قاصر عن الحاجة، حتى يكون معاشا لكم ولأنعامكم. }فأنشرنا}أي أحيينا. }به}أي بالماء. {بلدة ميتا}أي مقفرة من النبات. }كذلك تخرجون}أي من قبوركم؛ لأن من قدر على هذا قدر على ذلك. وقد مضى في }الأعراف}مجودا. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر }يخرجون}بفتح الياء وضم الراء. الباقون على الفعل المجهول. {والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون، لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون} قوله تعالى}والذي خلق الأزواج}أي والله الذي خلق الأزواج. قال سعيد بن جبير: أي الأصناف كلها. وقال الحسن: الشتاء والصيف والليل والنهار والسموات والأرض والشمس والقمر والجنة والنار. وقيل: أزواج الحيوان من ذكر وأنثى؛ قال ابن عيسى. وقيل: أراد أزواج النبات؛ كما قال تعالى قلت: وهذا القول يعم الأقوال كلها ويجمعها بعمومه. قوله تعالى}وجعل لكم من الفلك}السفن }والأنعام}الإبل }ما تركبون}في البر والبحر. }لتستووا على ظهوره}ذكر الكناية لأنه رده إلى ما في قوله}ما تركبون}؛ قال أبو عبيد. وقال الفراء: أضاف الظهور إلى واحد لأن المراد به الجنس، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجيش والجند؛ فلذلك ذكر، وجمع الظهور، أي على ظهور هذا الجنس. قال سعيد بن جبير: الأنعام هنا الإبل والبقر. وقال أبو معاذ: الإبل وحدها؛ وهو الصحيح ل قوله تعالى}لتستووا على ظهوره}يعني به الإبل خاصة بدليل ما ذكرنا. ولأن الفلك إنما تركب بطونها، ولكنه ذكرهما جميعا في أول الآية وعطف أخرها على أحدهما. ويحتمل أن يجعل ظاهرها باطنها؛ لأن الماء غمره وستره وباطنها ظاهرا؛ لأنه أنكشف الظاهرين وظهر للمبصرين. قوله تعالى}ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه}أي ركبتم عليه وذكر النعمة هو الحمد لله على تسخير ذلك لنا في البر والبحر. }وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين}}وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا}أي ذلل لنا هذا المركب. وفي قراءة علي بن أبي طالب }سبحان من سخر لنا هذا}. }وما كنا له مقرنين}أي مطيقين؛ في قول ابن عباس والكلبي. وقال الأخفش وأبو عبيدة}مقرنين}ضابطين. وقيل: مماثلين في الأيد والقوة؛ من قولهم: هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة. ويقال: فلان مقرن لفلان أي ضابط له. وأقرنت كذا أي أطقته. وأقرن له أي أطاقه وقوي عليه؛ كأنه صار له قرنا. قال الله تعالى}وما كنا له مقرنين}أي مطيقين. وأنشد قطرب قول عمرو بن معديكرب: وقال آخر: والمقرن أيضا: الذي غلبته ضيعته؛ يكون له إبل أو غنم ولا معين له عليها، أو يكون يسقي إبله ولا ذائد له يذودها. قال ابن السكيت: وفي أصله قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من الإقران؛ يقال: أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق. وأقرنت كذا إذا أطقته وحكمته؛ كأنه جعله في قرن - وهو الحبل - فأوثقه به وشده. والثاني: أنه مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير؛ يقال: قرنت كذا بكذا إذا ربطته به وجعلته قرينه. علمنا الله سبحانه ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن؛ وهي قوله تعالى {وجعلوا له من عباده جزء إن الإنسان لكفور مبين} قوله تعالى}وجعلوا له من عباده جزءا}أي عدلا؛ عن قتادة. يعني ما عبد من دون الله عز وجل. الزجاج والمبرد: الجزء ها هنا البنات؛ عجب المؤمنين من جهلهم إذا أقروا بأن خالق السموات والأرض هو الله ثم جعلوا له شريكا أو ولدا، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو: يستأنس به؛ لأن هذا من صفات النقص. قال الماوردي: والجزء عند أهل العربية البنات؛ يقال: قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات؛ قال الشاعر: الزمخشري: ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث متحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتا، وبيتا: زوجتها من بنات الأوس مجزئة وإنما قوله}وجعلوا له من عباده جزاء}متصل بقوله}ولئن سألتهم}أي ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفن به؛ وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءا فوصفوه بصفات المخلوقين. ومعنى }من عباده جزءا}أن قالوا الملائكة بنات الله؛ فجعلوهم جزءا له وبعضا، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له. وقرئ }جزؤا}بضمتين. }إن الإنسان}يعني الكافر. }لكفور مبين}قال الحسن: يعد المصائب وينسى النعم. }مبين}مظهر الكفر. {أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين} قوله تعالى}أم اتخذ مما يخلق بنات}الميم صلة؛ تقديره أتخذ مما يخلق بنات كما زعمتم أن الملائكة بنات الله؛ فلفظه الاستفهام ومعناه التوبيخ. }وأصفاكم بالبنين}أي اختصكم وأخلصكم بالبنين؛ يقال: أصفيته بكذا؛أي آثرته به. وأصفيته الود أخلصته له. وتصافينا تخالصنا. عجب من إضافتهم إلى الله اختيار البنات مع اختيارهم لأنفسهم البنين، وهو مقدس عن أن يكون له ولد إن توهم جاهل أنه اتخذ لنفسه ولدا فهلا أضاف إليه أرفع الجنسين ! ولم جعل هؤلاء لأنفسهم أشرف الجنسين وله الأخس ؟ وهذا كما قال تعالى {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم} قوله تعالى}وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا}أي بأنه ولدت له بنت }ظل وجهه}أي صار وجهه }مسودا}قيل ببطلان مثله الذي ضربه. وقيل: بما بشر به من الأنثى؛ دليله في سورة النحل غضبان ألا نلد البنينا وإنما نأخذ ما أعطينا وقرئ }مسودٌ، ومسوادٌ}. وعلى قراءة الجماعة يكون وجهه اسم }ظل}و}مسودا}خبر }ظل}. ويجوز أن يكون في }ظل}ضمير عائد على أحد وهو اسمها، و}وجهه}بدل من الضمير، و}مسودا}خبر }ظل}. ويجوز أن يكون رفع }وجهه}بالابتداء ويرفع }مسودا}على أنه خبره، وفي }ظل}اسمها والجملة خبرها. }وهو كظيم}أي حزين؛ قال قتادة. وقيل مكروب؛ قال عكرمة وقيل ساكت؛ قال ابن أبي حاتم؛ وذلك لفساد مثله وبطلان حجته. ومن أجاز أن تكون الملائكة بنات الله فقد جعل الملائكة شبها لله؛ لأن الولد من جنس الوالد وشبهه. ومن أسود وجهه بما يضاف إليه مما لا يرضى، أولى من أن يسود وجهه بإضافة مثل ذلك إلى من هو أجل منه؛ فكيف إلى الله عز وجل ! وقد مضى في }النحل}في معنى هذه الآية ما فيه كفاية. {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} قوله تعالى}أومن ينشأ}أي يربى ويشب. والنشوء: التربية؛ يقال: نشأت في بني فلان نشأ ونشوءا إذا شببت فيهم. ونشئ وأنشئ بمعنى. وقرأ ابن عباس والضحاك وابن وثاب وحفص وحمزة والكسائي وخلف }ينشأ}بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين؛ أي يربى ويكبر في الحلية. واختاره أبو عبيد، لأن الإسناد أيها أعلى. وقرأ الباقون }ينشأ}بفتح الياء وإسكان النون، واختاره أبو حاتم، أي يرسخ وينبت، وأصله من نشأ أي ارتفع، قال الهروي. فـ }ينشأ}متعد، و}ينشأ}لازم. قوله تعالى}في الحلية}أي في الزينة. قال ابن عباس وغيره: هن الجواري زيهن غير زي الرجال. قال مجاهد: رخص للنساء في الذهب والحرير؛ وقرأ هذه الآية. قال الكيا: فيه دلالة على إباحة الحلي للنساء، والإجماع منعقد عليه والأخبار فيه لا تحصى. قلت: روي عن أبي هريرة أنه كان يقول لابنته: يا بنية، إياك والتحلي بالذهب ! فإني أخاف عليك اللهب. قوله تعالى}وهو في الخصام غير مبين}أي في المجادلة والإدلاء بالحجة. قال قتادة، ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتها على نفسها. وفي مصحف عبدالله }وهو في الكلام غير مبين}. ومعنى الآية: أيضاف إلى الله من هذا وصفه! أي لا يجوز ذلك. وقيل: المنشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة وحلوها؛ قال ابن زيد والضحاك. ويكون معنى }وهو في الخصام غير مبين}على هذا القول: أي ساكت عن الجواب. و}من}في محل نصب، أي اتخذوا لله من ينشأ في الحلية. ويجوز أن يكون رفعا على الابتداء والخبر مضمر؛ قال الفراء. وتقديره: أو من كان على هذه الحالة يستحق العبادة. وإن شئت قلت خفض ردا إلى أول الكلام وهو قوله}بما ضرب}أو على }ما}في قوله}مما يخلق بنات}. وكون البدل في هذين الموضعين ضعيف لكون ألف الاستفهام حائلة بين البدل والمبدل منه. }وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا}قرأ الكوفيون }عباد}بالجمع. واختاره أبو عبيد؛ لأن الإسناد فيها أعلى، ولأن الله تعالى إنما كذبهم في قولهم إنهم بنات الله، فأخبرهم أنهم عبيد وأنهم ليسوا ببناته. وعن ابن عباس أنه قرأ }عباد الرحمن}، فقال سعيد بن جبير: إن في مصحفي }عبدالرحمن}فقال: أمحها واكتبها }عباد الرحمن}. وتصديق هذه القراءة قوله تعالى وروي عن الزهري }أُشْهِدوا خلقهم}على الخبر، }ستكتب}قراءة العامة بضم التاء على الفعل المجهول }شهادتهم}رفعا. وقرأ السلمى وابن السميقع وهبيرة عن حفص }سنكتب}بنون، }شهادتهم}نصبا بتسمية الفاعل. وعن أبي رجاء }ستكتب شهاداتهم}بالجمع. {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} قوله تعالى}وقالوا لوشاء الرحمن}يعني قال المشركون على طريق الاستهزاء والسخرية: لوشاء الرحمن على زعمكم ما عبدنا هذه الملائكة. وهذا منهم كلمة حق أريد بها باطل. وكل شيء بإرادة الله، وإرادته تجب وكذا علمه فلا يمكن الاحتجاج بها؛ وخلاف المعلوم والمراد مقدور وإن لم يقع. ولو عبدوا الله بدل الأصنام لعلمنا أن الله أراد منهم ما حصل منهم. وقد مضى هذا المعنى في الأنعام عند قوله {أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون} هذا معادل لقوله}أشهدوا خلقهم}. والمعنى: أحضروا خلقهم أم آتيناهم كتابا من قبله؛ أي من قبل القرآن بما ادعوه؛ فهم به متمسكون يعملون بما فيه. {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} قوله تعالى}بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة}أي على طريقة ومذهب؛ قال عمر بن عبدالعزيز. وكان يقرأ هو ومجاهد وقتادة }على إمة}بكسر الألف. والأمة الطريقة. وقال الجوهري: والإمة بالكسر النعمة. والإمة أيضا لغة في الأمة، وهي الطريقة والدين؛ عن أبي عبيدة. قال عدي بن زيد في النعمة: عن غير الجوهري. وقال قتادة وعطية}على أمة}على دين؛ ومنه قول قيس بن الخطيم: قال الجوهري: والأمة الطريقة والدين، يقال: فلان لا أمة له؛ أي لا دين له ولا نحلة. قال الشاعر: وقال مجاهد وقطرب: على دين على ملة. وفي بعض المصاحف }قالوا إنا وجدنا أباءنا على ملة}وهذه الأقوال متقاربة. وحكي عن الفراء على ملة على قبلة. الأخفش: على استقامة، وأنشد قول النابغة: قوله تعالى}وإنا على آثارهم مهتدون}أي نهتدي بهم. وفي الآية الأخرى }مقتدون}أي نقتدي بهم، والمعنى واحد. قال قتادة: مقتدون متبعون. وفي هذا دليل على إبطال التقليد؛ لذمه إياهم على تقليد آبائهم وتركهم النظر فيما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد مضى القول في هذا في }البقرة}مستوفى. وحكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة بني ربيعة من قريش؛ أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضا. يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ونظيره {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} قوله تعالى}قل أولو جئتكم بأهدى}أي قل يا محمد لقومك: أوليس قد جئتكم من عند الله بأهدى؛ يريد بأرشد. }مما وجدتم عليه آبائكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون}يعني بكل ما أرسل به الرسل. فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولفظه لفظ الجمع؛ لأن تكذيبه تكذيب لمن سواه. وقرئ }قل وقال وجئتكم وجئناكم}يعني أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ؟ قالوا: إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وإن جئتنا بما هو أهدى. وقد مضى في }البقرة}القول في التقليد وذمه فلا معنى لإعادته. وقراءة العامة }قل أو لو جئتكم}وقرأ ابن عامر وحفص }قال أو لو}على الخبر عن النذير أنه قال لهم هذه المقالة. وقرأ أبو جعفر }قل أولو جئناكم}بنون وألف؛ على أن المخاطبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جميع الرسل. {فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين} قوله تعالى}فانتقمنا منهم}بالقحط والقتل والسبي }فانظر كيف كان عاقبه المكذبين}آخر أمر من كذب الرسل. {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} قوله تعالى}وإذ قال}أي ذكرهم إذ قال. }إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون}البراء يستعمل للواحد فما فوقه فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث؛ لأنه مصدر وضع موضع النعت؛ لا يقال: البراءان والبراؤون، لأن المعنى ذو البراء وذوو البراء. قال الجوهري: وتبرأت من كذا، وأنا منه براء، وخلاء منه لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر في الأصل؛ مثل: سمع سماعا. فإذا قلت: أنا بريء منه وخلي ثنيت وجمعت وأنثت، وقلت في الجمع: نحن منه براء مثل فقيه وفقهاء، وبراء أيضا مثل كريم وكرام، وأبراء مثل شريف وأشراف، وأبرياء مثل نصيب وأنصباء، وبريئون. وامرأة بريئة بريئتان وهن بريئات وبرايا. ورجل بريء وبراء مثل عجيب وعجاب. والبراء بالفتح أول ليلة من الشهر، سميت بذلك لتبرؤ القمر من الشمس. }إلا الذي فطرني}استئناء متصل، لأنهم عبدوا الله مع آلهتهم. قال قتادة: كانوا يقولون الله ربنا؛ مع عبادة الأوثان. ويجوز أن يكون منقطعا؛ أي لكن الذي فطرني فهو يهدين. قال ذلك ثقة بالله وتنبيها لقومه أن الهداية من ربه. {وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون} قوله تعالى}وجعلها كلمة باقية}الضمير في }جعلها}عائد على قوله}إلا الذي فطرني}. وضمير الفاعل في }جعلها}لله عز وجل؛ أي وجعل الله هذه الكلمة والمقالة باقية في عقبه، وهم ولده وولد ولده؛ أي إنهم توارثوا البراءة عن عبادة غير الله، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب من يأتي بعده. وقال السدي: هم آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: قوله}في عقبه}أي في خلقه. وفي الكلام تقديم وتأخير؛ المعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها كلمة باقية في عقبه. أي قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله. قال مجاهد وقتادة: الكلمة لا إله إلا الله. قال قتادة: لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال الضحاك: الكلمة أن لا تعبدوا إلا الله. عكرمة: الإسلام؛ لقوله تعالى قال ابن العربي: إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاب بدعوتيه المجابتين؛ إحداهما في قوله قال ابن العربي: جرى ذكر العقب ها هنا موصولا في المعنى، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى والتحبيس. قال النبي صلى الله عليه وسلم: قلت: هذا مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين، ومن حجتهم على ذلك الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم مع قوله تعالى قلت: هذا الاستدلال غير صحيح، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة لوجود معنى الولادة فيه، ولأن أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنت البنت من قول الله تعالى قيل لهم: هذا لا دليل فيه؛ لأن معنى قوله: إنما هو ولد بنيه الذكران هم الذين لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب، وإن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك؛ إذ ينتسبون إلى غيره فأخبر بافتراقهم بالحكم مع اجتماعهم في التسمية ولم ينف عن ولد البنات اسم الولد لأنه ابن؛ وقد يقول الرجل في ولده ليس هو بابني إذ لا يطيعني ولا يرى لي حقا، ولا يريد بذلك نفي اسم الولد عنه، وإنما يريد أن ينفي عنه حكمه. ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولدا فقد أفسد معناه وأبطل فائدته، وتأول على قائله ما لا يصح، إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في اللسان العربي ابنا، ولا يسمى ولد الابنة ابنا؛ من اجل أن معنى الولادة التي اشتق منها اسم الولد فيه أبين وأقوى لأن ولد الابنة هو ولدها بحقيقة الولادة، وولد الابن إنما هو ولده بمال مما كان سببا للولادة. ولم يخرج مالك رحمه الله أولاد البنات من حبس على ولده من أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان، وإنما أخرجهم منه قياسا على الموارثة. وقد مضى هذا في }الأنعام}والحمد لله. اللفظ الثامن اللفظ التاسع ولكنه أراد أن الرجل إذا دعا قومه للنصرة عنى الرجال، وإذا دعاهم للحرمة دخل فيهم الرجال والنساء؛ فتعممه الصفة وتخصصه القرينة. {بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين، ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون، وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون} قوله تعالى}بل متعت}وقرئ }بل متعنا}. }هؤلاء وآبائهم}أي في الدنيا بالإمهال. }حتى جاءهم الحق}أي محمد صلى الله عليه وسلم بالتوحيد والإسلام الذي هو اصل دين إبراهيم؛ وهو الكلمة التي بقاها الله في عقبه. }ورسول مبين}أي يبين لهم ما بهم إليه حاجة. }ولما جاءهم الحق}يعني القرآن. }قالوا هذا سحر وإنا به كافرون}جاحدون. }وقالوا لولا نزل}أي هلا نزل }هذا القرآن على رجل}وقرئ }على رجل}بسكون الجيم. }من القريتين عظيم}أي من إحدى القريتين؛ كقوله تعالى {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون} قال العلماء: ذكر حقارة الدنيا وقلة خطرها، وأنها عنده من الهوان بحيث كان يجعل بيوت الكفرة ودرجها ذهبا وفضة لولا غلبة حب الدنيا على القلوب؛ فيحمل ذلك على الكفر. قال الحسن: المعنى لولا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه؛ لهوان الدنيا عند الله عز وجل. وعلى هذا أكثر المفسرين ابن عباس والسدي وغيرهم. وقال ابن زيد}ولولا أن يكون الناس أمة واحدة}في طلب الدنيا واختيارها على الآخرة }لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة}. وقال الكسائي: المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها. قرأ ابن كثير وأبو عمرو }سقفا}بفتح السين وإسكان القاف على الواحد ومعناه الجمع؛ اعتبارا بقوله تعالى قوله تعالى}ومعارج}يعني الدرج؛ قال ابن عباس وهو قول الجمهور. واحدها معراج، والمعراج السلم؛ ومنه ليلة المعراج. والجمع معارج ومعاريج؛ مثل مفاتح ومفاتيح؛ لغتان. }ومعاريج}قرأ أبو رجاء العطاردي وطلحة بن مصرف؛ وهي المراقي والسلاليم. قال الأخفش: إن شئت جعلت الواحد معرج ومعرج؛ مثل مرقاة ومرقاة. }عليها يظهرون}أي على المعارج يرتقون ويصعدون؛ يقال: ظهرت على البيت أي علوت سطحه. وهذا لأن من علا شيئا وارتفع عليه ظهر للناظرين. ويقال: ظهرت على الشيء أي علمته. وظهرت على العدو أي غلبته. وأنشد نابغة بني جعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: أي مصعدا؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [إلى أين] ؟ قال إلى الجنة؛ قال: [أجل إن شاء الله]. قال الحسن: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك ! فكيف لو فعل ؟! استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن السقف لا حق فيه لرب العلو؛ لأن الله تعالى جعل السقوف للبيوت كما جعل الأبواب لها. وهذا مذهب مالك رحمه الله. قال ابن العربي: وذلك لأن البيت عبارة عن قاعة وجدار وسقف وباب، فمن له البيت فله أركانه. ولا خلاف أن العلول إلى السماء. واختلفوا في السفل؛ فمنهم من قال هو له، ومنهم من قال ليس له في باطن الأرض شيء. وفي مذهبنا القولان. وقد بين حديث الإسرائيلي الصحيح فيما تقدم: أن رجلا باع من رجل دارا فبناها فوجد فيها جرة من ذهب، فجاء بها إلى البائع فقال: إنما اشتريت الدار دون الجرة، وقال البائع: إنما بعت الدار بما فيها؛ وكلهم تدافعها فقضى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوج أحدهما ولده من بنت الآخر ويكون المال لهما. والصحيح أن العلو والسفل له إلا أن يخرج عنهما بالبيع؛ فإذا باع أحدهما أحد الموضعين فله منه ما ينتفع به وباقيه للمبتاع منه. من أحكام العلو والسفل. إذا كان العلو والسفل بين رجلين فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه؛ فذكر سحنون عن أشهب أنه قال: إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، أو أراد صاحب العلو أن يبني علوه فليس لصاحب السفل أن يهدم إلا من ضرورة، ويكون هدمه له أرفق لصاحب العلو؛ لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لرب العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل. ولو انكسرت خشبة من سقف العلو لأدخل مكانها خشبة ما لم تكن أثقل منها ويخاف ضررها على صاحب السفل. قال أشهب: وباب الدار على صاحب السفل. قال: ولو أنهدم السفل أجبر صاحبه على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبني السفل؛ فإن أبى صاحب السفل من البناء قيل له بع ممن يبني. وروى ابن القاسم عن مالك في السفل لرجل والعلو لآخر فأعتل السفل، فإن صلاحه على رب السفل وعليه تعليق العلو حتى يصلع سفله؛ لأن عليه إما أن يحمله على بنيان أو على تعليق، وكذلك لو كان على العلو فتعليق العلو الثاني على صاحب الأوسط. وقد قيل: إن تعليق العلو الثاني على رب العلو حتى يبني الأسفل. وحديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون، وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} قوله تعالى}ولبيوتهم أبوابا وسررا}}ولبيوتهم أبوابا}أي ولجعلنا لبيوتهم. وقيل}لبيوتهم}بدل اشتمال من قوله}لمن يكفر بالرحمن}. }أبوابا}أي من فضة. {وسررا}كذلك؛ وهو جمع السرير. وقيل: جمع الأسرة، والأسرة جمع السرير؛ فيكون جمع الجمع. }عليها يتكئون}الاتكاء والتوكؤ: التحامل على الشيء؛ ومنه، }أتوكأ عليها}. ورجل تكأة؛ مثال همزة؛ كثير الاتكاء. والتكأة أيضا: ما يتكأ عليه. وأتكأ على الشيء فهو متكئ؛ والموضع متكأ. وطعنه حتى أتكأه (على أفعله) أي ألقاه على هيئة المتكئ. وتوكأت على العصا. وأصل التاء في جميع ذلك واو، ففعل به ما فعل باتزن واتعد. }وزخرفا}الزخرف هنا الذهب؛ عن ابن عباس وغيره. نظيره لقد جاع فيها الأنبياء كرامة وقد شبعت فيها بطون البهائم وقال آخر: إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فاته منها فليس بضائر
فلا تزن الدنيا جناح بعوضة ولا وزن رَقٌّ من جناح لطائر
فلم يرض بالدنيا ثوابا لمحسن ولا رضي الدنيا عقابا لكافر {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون، حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} قوله تعالى}ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين}وقرأ ابن عباس وعكرمة }ومن يعش}بفتح الشين، ومعناه يعمى؛ يقال منه عشي يعشى عشا إذا عمي. ورجل أعشى وامرأة عشواء إذا كان لا يبصر؛ ومنه قول الأعشى: وقوله: الباقون بالضم؛ من عشا يعشو إذا لحقه ما لحق الأعشى. وقال الخليل: العشو هو النظر ببصر ضعيف؛ وأنشد: وقال آخر: الجوهري: والعشا مقصور مصدر الأعشى وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. والمرأة عشواء، وامرأتان عشواوان. وأعشاه الله فعشي بالكسر يعشى عشي، وهما يعشيان، ولم يقولوا يعشوان؛ لأن الواو لما صارت في الواحد ياء لكسرة ما قبلها تركت في التثنية على حالها. وتعاشى إذا أرى من نفسه أنه أعشى. والنسبة إلى أعشى أعشوي. وإلى العشية عشوى. والعشواء: الناقة التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيديها كل شيء. وركب فلان العشواء إذا خبط أمره على غير بصيرة. وفلان خابط خبط عشواء. وهذه الآية تتصل بقول أول السورة قوله تعالى}حتى إذا جاءنا}على التوحيد قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص يعني الكافر يوم القيامة. الباقون }جاءانا}على التثنية، يعني الكافر وقرينه وقد جعلا في سلسلة واحدة؛ فيقول الكافر}يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين}أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف، كما قال تعالى قال مقاتل: يتمنى الكافر أن بينهما بعد المشرق أطول يوم في السنة إلى مشرق أقصر يوم في السنة، ولذلك قال}بعد المشرقين}. وقال الفراء: أراد المشرق والمغرب فغلب اسم أحدهما، كما يقال: القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر، والبصرتان للكوفة والبصرة، والعصران للغداة والعصر. وقال الشاعر: وأنشد أبو عبيدة لجرير: وأنشد سيبويه: يريد عبدالله ومصعبا ابني الزبير،وإنما أبو خبيب عبدالله. }فبئس القرين}أي فبئس الصاحب أنت؛ لأنه يورده إلى النار. قال أبو سعيد الخدري: إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار. {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} قوله تعالى}ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم}}إذ}بدل من اليوم؛ أي يقول الله للكافر: لن ينفعكم اليوم إذ أشركتم في الدنيا هذا الكلام؛ وهو قول الكافر}يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين}أي لا تنفع الندامة اليوم }إنكم}بالكسر }في العذاب مشتركون}وهي قراءة ابن عامر باختلاف عنه. الباقون بالفتح. وهي في موضع رفع تقديره: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب؛ لأن لكل واحد نصيبه الأوفر منه. أعلم الله تعالى أنه منع أهل النار التأسي كما يتأسى أهل المصائب في الدنيا، وذلك أن التأسي يستروحه أهل الدنيا فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة؛ فيسكن ذلك من حزنه؛ كما قالت الخنساء: وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي، شيئا لشغلهم بالعذاب. وقال مقاتل: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم؛ لأن قرناءكم وأنتم في العذاب مشتركون كما اشتركتم في الكفر. {أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين} قوله تعالى}أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي}يا محمد }ومن كان في ضلال مبين}أي ليس لك ذلك فلا يضيق صدرك إن كفروا؛ ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وفيه رد على القدرية وغيرهم، وأن الهدى والرشد والخذلان في القلب خلق الله تعالى، يضل من يشاء ويهدي من يشاء. {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون، أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون} قوله تعالى}فإما نذهبن بك}يريد نخرجنك من مكة من أذى قريش. }فإنا منهم منتقمون. أو نريك الذي وعدناهم}وهو الانتقام منهم في حياتك. }فإنا عليهم مقتدرون}قال ابن عباس: قد أراه الله ذلك يوم بدر؛ وهو قول أكثر المفسرين. وقال الحسن وقتادة: هي في أهل الإسلام؛ يريد ما كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن. و}نذهبن بك}على هذا نتوفينك. وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نقمة شديدة فأكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذهب به فلم يره في أمته إلا التي تقر به عينه وأبقى النقمة بعده، وليس من نبي إلا وقد أري النقمة في أمته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أري ما لقيت أمته من بعده، فما زال منقبضا، ما انبسط ضاحكا حتى لقي، الله عز وجل. {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم، وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} قوله تعالى}فاستمسك بالذي أوحي إليك}يريد القرآن، يريد القرآن، وإن كذب به من كذب؛ فـ }إنك على صراط مستقيم}يوصلك إلى الله ورضاه وثوابه. }وإنه لذكر لك ولقومك}يعني القرآن شرف لك ولقومك من قريش، إذ نزل بلغتهم وعلى رجل منهم؛ نظيره وقيل: بيان لك ولأمتك فيما بكم إليه حاجة. وقيل: تذكرة تذكرون به أمر الدين وتعملون به. وقيل}وإنه لذكر لك ولقومك}يعني الخلافة فإنها في قريش لا تكون في غيرهم؛ قال النبي مصلى الله عليه وسلم: قلت: والصحيح أنه شرف لمن عمل به، كان من قريش أومن غيرهم. قوله تعالى}وسوف تسألون}أي عن الشكر عليه؛ قال مقاتل والفراء. وقال ابن جريج: أي تسألون أنت ومن معك على ما أتاك. وقيل: تسألون عما عملتم فيه؛ والمعنى متقارب. {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} قوله تعالى}واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى}واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا}قال: لقي الرسل ليلة أسري به. وقال الوليد بن مسلم في قوله تعالى}واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا}قال: سألت عن ذلك وليد بن دعلج فحدثني عن قتادة قال: سألهم ليلة أسري به، لقي الأنبياء ولقي آدم ومالك خازن النار. قلت: هذا هو الصحيح في تفسير هذه الآية. و}من}التي قبل }رسلنا}على هذا القول غير زائدة. وقال المبرد وجماعة من العلماء: إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا. وروي أن في قراءة ابن مسعود}واسال الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا}. وهذه قراءة مفسرة؛ فـ }من}على هذا زائدة، وهو قول مجاهد والسدي والضحاك وقتادة وعطاء والحسن وابن عباس أيضا. أي واسأل مؤمني أهل الكتابين التوراة والإنجيل. وقيل: المعنى سلنا يا محسد عن الأنبياء الذين أرسلنا قبلك؛ فحذفت }عن}، والوقف على }رسلنا}على هذا تام، ثم ابتدأ بالاستفهام على طريق الإنكار. وقيل: المعنى واسأل تباع من أرسلنا من قبلك من رسلنا، فحذف المضاف. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. قوله تعالى}أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون}أخبر عن الآلهة كما أخبر عمن يعقل فقال}يعبدون}ولم يقل تعبد ولا يعبدن، لأن الآلهة جرت عندهم مجرى من يعقل فأجرى الخبر عنهم مجرى الخبر عمن يعقل. وسبب هذا الأمر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك؛ فأمره الله بسؤال الأنبياء على جهة التوقيف والتقرير؛ لا لأنه كان في شك منه. واختلف أهل التأويل في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين: أحدهما: أنه سألهم فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد؛ قاله الواقدي. الثاني: أنه لم يسألهم ليقينه بالله عز وجل؛ حتى
|